مسمـار في جدار المقبرة
--------------------------------------------------------------------------------
لم تكن إيناس صديقتي
لقد كانت فتاة أخرى من معارفي ألاقيها كثيراً في الجوار، كانت زمردية العينين سوداء الشعر حادة الطباع والملامح، على جانبي فمها ارتسمت تجعيدتا قسوة واضحة تشي بأن هذه الفتاة تحمل وجهاً بلورياً، فإذا ما ابتسمت تناثر حطام وجهها غضباً وزجاجاً في وجه ذلك السافل الذي أثار ابتسامتها
كانت قوية ثابتة الجنان متماسكة الأعصاب، وكي تعطي المزيد من مظهر القوة هذا إلى نفسها كانت تؤمن ـ بسطحية كبيرة ـ بوجود المرأة وحقوقها
هي لم تؤمن بذلك لأنها امرأة. لم تؤمن بذلك لأنها قوية. بل آمنت بذلك لأنها تريد أن تبدو أكثر قوة
لذلك، كانت إيناس تؤمن ـ أو تدعي بأنها تؤمن ـ بأن الرجل والمرأة وجهان لعملة واحدة، هي لا ترضى أن يُقال أن الرجل أقوى أعصاباً من المرأة، هي لا ترضى أن يُقال أن المرأة أكثر عاطفية من الرجل، كانت تنادي بالسماح للمرأة بأن تنطلق من قيودها، وأن تحتل العالم معبرة عن آرائها ومعتقداتها بوضوح وصراحة كما يفعل الرجل، وأقول تنادي، ولكنها في الحقيقة لا تهتم كثيراً بمضمون هذه العبارات الرنانة، هي تريد أن تبدو أكثر قوة فحسب عن طريق هذه الأشياء التي لا تفهمها ولا تريد أن تفهمها، المهم عندها هو الصورة الاجتماعية الصحيحة التي تريد إيصالها للآخرين، ثم فليذهب الرجل والمرأة إلى الجحيم
*******
أستطيع بعين الخيال أن أرى وأسمع تلك المحادثة التي لم أحضرها أو أسمعها، ولكن الأمر ـ ولابد ـ قد مشى على النحو التالي
ـ نعم يا عزيزتي إيناس، أنت تعقدين الأمور أكثر من اللازم، لا يحتاج الأمر إلى كل هذا التعقيد المبالغ فيه، كما لا يحتاج إلى كل هذا التعنت الذي لا طائل منه
قالتها جوزفين في تلك السهرة التي أقامتها وصديقاتها في منزلها، وكانت منهن إيناس، ثم ضمت جوزفين الوسادة المزركشة إلى صدرها وداعبت خصلات شعرها الأسود القصير، وهي تتابع بصوت حنون هادئ
ـ إن واجب المرأة الأزلي في هذه الحياة هو أن تتزوج من شاب وسيم ثري وتنجب أطفالاً مشاغبين من الذكور والإناث، فتعلم الذكور أن يكونوا أقوياء صالحين، وتعلم الإناث أن يكونوا
ثم رفعت عينيها إلى السقف وغابت فيه شاردة باحثة عن كلمة مناسبة فأسرعت إيمان تقول لها وهي ترمق إيناس بعينيها الرماديتين
ـ وتعلمهن أن يكن إناثًا
ـ بالضبط
هنا أمسكت لينا بمجرى الحديث وتابعت وهي تتأمل خاتم خطوبتها الجميل المرصع بالأحجار الكريمة بفخر
ـ نعم يا صديقاتي، على المرأة أن تبحث عن جمالها ورومانسيتها وعاطفتها وإيتيكيتها ومجوهراتها طبعاً، إن هذا هو ما خلقت من أجله
قالت إيمان بدورها
ـ أجل! تصوري امرأة تعمل في الحديد مثلاً، أو في البناء! إن هذا مستحيل! فالبنية النفسية للمرأة لا تسمح لها بأن
هنا ـ طبعًا ـ جاء دور إيناس كي تنفجر فيهن جميعاً، وهي تقول
ـ إذن فهذا رأيكن في المرأة، إن هذا غباء!! زعيق ثلاث دجاجات يقدن للمذبح! إن للمرأة شخصيتها القوية التي يجب أن تحافظ عليها وتصونها كجوهرة من جواهرك يا لينا، أو طفل من أطفالك يا جوزفين، أو معلومة من عقلك يا إيمان
ثم صمتت مفكرة للحظة، ثم تابعت
ـ يقولون
إن الكلام امتياز الرجال
فلا تنطقي
وإن الكتابة بحر عميق المياه
فلا تغرقي
وهاأنذا قد سبحت كثيراً
وقاومت كل البحار
ولم أغرق
سألتها لينا باستغراب: ما هذا الهراء؟؟
عقدت إيناس حاجبيها في غضب، وقالت بحدة
ـ إنه شعر للدكتورة سعاد الصباح وهي تتكلم عن الـ
قاطعتها إيمان بملل: أرجوك يا إيناس! توقفي عن ألعاب الرجولة هذه، فهي لا تتناسب مع طبيعة النسوة! إن النساء بطبعهن هادئات كالـ
صرخت إيناس في وجهها في غضب
ـ إنني أرجوكن! توقفن عن نعيق البوم هذا!! لقد اكتفيت منكن… اكتفيت منكن جميعاً
ووقفت في غضب، وهي تقول: أنا راحلة.. الوداع
*******
لابد لك أنك قد لاحظت أن الحديث يبدو واضحاً وجلياً أنه حديث ثلاث صديقات سطحيات إلى أقصى الدرجة، ولكن المشكلة أن إيناس لم تكن بأحسن حالاً منهن، فهي سطحية بدورها، وإن أجادت رسم دورها كي تبدو عميقة إلى أقصى الدرجات
على أية حال لم تغادر إيناس المنزل غاضبة كما لك أن تتصور، فلقد قامت جوزفين وأجلستها، وهي تقول
ـ كفى ألعاباً صبيانية سخيفة! أريد أن أسألكِ فقط: ماذا هناك من أشياء خطيرة يقوم بها الرجال وأنت تستطيعين القيام بها على أكمل وجه؟
ومن مجلسها في الزاوية، ناظرة إلى خاتمها المرصع الذي لا تحيد عنه عيناها منذ ساعات قالت لينا دون اهتمام
ـ أجل! لا يوجد شيء محدد! ثم إنك لا تستطيعين الذهاب إلى المنزل الآن وحيدة وقد تجاوزت الساعة منتصف الليل، علينا جميعاً أن نذهب معاً في سيارة أخي الأكبر عند الثانية بعد منتصف الليل كما اتفقنا مع أهالينا
ـ انظرن إليّ إذن! أنني أستطيع الذهاب الآن وحيدة وسترون الويل الذي سيحدث لمن يتجرأ على إزعاجي
ثم لمعت عينا إيناس وهي تقول
ـ تظنون بأنني ضعيفة كالنساء!! أنا قادرة كرجل، أنا أستطيع أن أذهب إلى منزلي عابرة المقبرة المجاورة دون مشاكل! لا خوف عندي من ذلك! أخبريني عدد الرجال الذي يستطيعون الذهاب إلى هناك في مثل هذا الوقت؟
ـ كفى يا إيناس، أنت تخرفين بما لا تعرفين، لقد زاد الأمر عن حده
ـ كلا!! لست أفعل يا إيمان، إنني فعلاً قادرة على الذهاب إلى هناك
وقفت جوزفين بينهما ورفعت ذراعيها على امتدادها وهي تقول
ـ كفى يا فتيات ! لا تتشاجرن الآن
ـ جوزفين ابقي خارج الموضوع
تراجعت جوزفين متقهقرة، وهي تقول: حسناً… حسناً… لا داعي للعصبية
تابعت إيناس شجارها مع إيمان وقالت
ـ والآن… ما الدليل الذي تريدينه كي أثبت أنني قادرة على ما قلته؟
ـ أنا أؤمن بالعلم والتجريب يا عزيزتي! سنأخذ من هنا مطرقة ومسمارا ضخما وتتجهين وحيدة الآن إلى المقبرة! وفي المقبرة عليك أن تطرقي المسمار في أحد الحوائط الداخلية البعيدة عن الأبواب، ثم تعودين إلى هنا قبل الثانية صباحاً! وفي الصباح الباكر سنذهب معاً إلى هناك لنرى المسمار
ـ لا مشكلة هناك… أنا موافقة
موافقتها هذه كانت لإثبات قوة شخصيتها فحسب، اندفاع أحمق نحو النهاية المشؤومة ككل بطل إغريقي أخرق
ـ ولكن يا إيناس
ـ أرجوك يا جوزفين… هل أجد عندكم مطرقة ومسماراً ضخمين؟
المقبرة؟.. فجأة ارتطمت الكلمة بجدران عقلها فهزتها من النخاع وتردد صداها في الأعماق، وأرسلت قشعريرة باردة إلى أطراف أصابعها، ولكن فكرة أن تبدو أقوى كانت تسيطر أكثر على ساحة عقلها، وفكرة أن تتراجع كانت أضعف من أن تولد
ـ إيناس.. فكري قليلاً قبل أن
ـ المطرقة والمسمار يا جوزفين
ـ حسناً… حسناً
*******
المقبرة الموحشة الباردة الباكية
الأعشاب الطفيلية التي تتكور في شراهة هنا وهناك
الشواهد المتآكلة التي كتبت عليها آيات قرآنية وأسماء الموتى والرحمات التي يتمنى الكاتب من الله أن تنزل على من مات من أحبابه
أشعة القمر الشاحبة التي تبدو كشاهد أخير على مأساة ستحدث حالاً
في ذلك العالم البارد، إذ ترتطم أحلامك بكوابيس مقيتة، وتتراجع لحظات السعادة تاركة مقاعدها للحظات توجس وخوف، تظهر تلك الفتاة غريبة الأطوار، تتحرك بين القبور بنعومة تحسب عليها، ترتدي فستانًا طويلاً يصل إلى الأرض ليلامسها بنعومة تثير القشعريرة وفي يدها مطرقة ومسمار ضخم صدئ
إن ذكرنا هذا المشهد بشيء فإنه يذكرنا بأفلام مصاصي الدماء ـ وهو مثال سخيف مكرر ـ تضع الفتاة الشقراء الخائفة المرتجفة المسمار بصعوبة بالغة على صدر مصاص الدماء الشاحب المسترخي بهدوء مريح للأعصاب في التابوت الأسود المبطن بالمخمل الأحمر، وترتفع المطرقة إلى الأعلى ثم.. يفتح مصاص الدماء عينيه الدمويتان ويرمق الفتاة بنظرة حاقدة
تقترب إيناس متعثرة الخطوات من الجدار الغربي وهي تلقي السلام بين كل لحظة وأخرى في تحية للموتى الذين ينتظرون نداء إسرافيل
ـ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
كان الصمت الخبيث يسود المكان، مضجرًا حانقًا تعيسًا مثيرًا للغثيان، صمت أجيال يتراكم على روحك كألف ألف جبل (همالايا)، ذلك الصمت الذي لا يتناسب مع أصوات الزفير التعيسة التي تتردد هنا في ساعات الصباح الأولى، عندما يقف أحدهم أمام قبر ما و
حتى الهواء ذاته يبدو بارداً هادئاً شاحباً ناحباً، لا توجد نسمة هواء تتحرك هنا أو هناك كأنما (أورورا) ـ آلهة النسائم والندى الإغريقية ـ قد نسيت دورها في هذا المكان بالذات
ووصلت إيناس إلى هدفها
وضعت المسمار على الحائط.. رفعت المطرقة.. و
ـ أي ي ي ي ي ي ي
هذه ـ بالطبع ـ ليست من مصاص الدماء الذي يتجاوز الوتد صدره بل من إيناس ذاتها.. لقد ضريت إصبعها بدلاً من المسمار
ـ اللعنة… ألف لعنة
وهكذا وجدت عزيزتنا إيناس أنه من الأفضل أن تدق المسمار اللعين في الأرض، هذا أسهل بكل تأكيد
تتلفت إيناس حولها للحظة رامقة الشواهد التي ترمقها بالرهبة والرعب نفسه، قبل أن تنحني نحو الأرض رافعة المطرقة بأعلى ما تقدر
ـ هوووو
قفزت إيناس في الهواء مترين، ثم انتبهت إلى أن البومة التي تقف فوق قبر قريب هي من تسألها عن ماهيتها، فزفرت بعصبية وجلست القرفصاء على الأرض.. صحيح أنها لا ترى شيئاً تقريباً؛ لأن ظل شاهد هذا القبر يغطي المكان، ولكنها لن تخطئ في ضربتها هذه المرة
أول ضربة..
ثاني ضربة..
ثالث ضربة..
لقد انغرس المسمار تماماً في الأرض الآن، لن يتحرك من مكانه إلى يوم الدين
لنعد الآن إلى المنزل قبل فوات الأوان
وقفت إيناس واتجهت مبتعدة وهي تتنهد بارتياح عندما اكتشفت أن......
أن أحدهم يمسك بطرف ثوبها ويشدها إلى الوراء
*******
سحبت الثوب بقوة أكبر، ودقات قلبها تتزايد بسرعة غير مسبوقة
لنفكر بعقلانية ومنطقية هنا، لا يمكن أن يحدث هذا لي أنا بالذات، إن الآخرين فقط هم الذين يتمسك الموتى بثيابهم وهم راحلون
لكن الثوب اللعين لم يرض أن يتركها، ولم يرض أن يتمزق.. ما معنى هذا؟! من يشدها إلى الأسفل..؟! إلى حيث الموتى والعظام والرعب والـ
ـ وعليكِ السلام ورحمة الله وبركاته
ـ وعليكِ السلام ورحمة الله وبركاته
ـ وعليكِ السلام ورحمة الله وبركاته
صوت الأموات الذين يردون على تحياتها السابقة يتصاعد من كل المقابر المجاورة، يتراجع المنطق ويسيطر الرعب عليها عندما يعلو مواء قطة أقرب إلى العواء، وزعيق بومة قريبة خائفة، والرياح.. الرياح الحانقة التي ثارت فجأة دافعة أمامها إعصاراً من الغبار يغزو العيون والمقلات
لكنها تستطيع أن تراه الآن بعين الخيال تحت ضوء القمر
تلك الأصابع العظمية البيضاء التي تمسك بطرف ثوبها والتي تلتمع تحت ضوء القمر الشاحب المريض
تستطيع أن تسمع بخيالها رد الموتى على تحيتها السابقة
تستطيع أن ترى الأشباح التي تتحرك حولها بهدوء وثقة
تستطيع أن تشم بداخلها رائحة الموت التي أزكمت أنفها، هاهو الموت يتقدم بإجلال بعباءته السوداء التي يرتفع عبرها صراخ المعذبين، ومنجله البارد في يده العظمية تتساقط منه الدماء الباكية
ـ النجدة… الغوث
أخذت أسنانها تصطك برعب، أنها خائفة وفي داخلها ارتفعت لحظات حنق غير مسبوقة، اللعنة على التعنت.. اللعنة… ألف لعنة ولعنة
إنها خائفة لدرجة كبيرة الآن
لا تنظر للوراء.. ولكنها تستطيع أن تتخيل الهيكل العظمي الذي يمسك بطرف ثوبها، يقف بهدوء وراءها تاركاً ظله يسقط على وجهها، وابتسامة الموت الساخرة تتلاعب على سحنته المرعبة
تستطيع أن تتخيل عظام يده التي تتحرك نحو عنقها بهدوء
لن ينقذها أحدٌ الآن، فالراقص مع الذئاب تلاحقه بنادق الجنود.. وباتمان وسوبرمان مشغولان بتصوير أفلام هوليود
وعندما دقت ساعة مابعيدة دقة واحدة حزينة معلنة أن الساعة تمام الواحدة، وأن النجاة لا تزال بعيدة، كالبعد بين الأرض وبلوتو، كالبعد بين السماء والأرض، كالبعد نفسه
عندئذ أخذت إيناس بالصراخ.. تصرخ.. وتصرخ.. وتصرخ… وتصرخ.. وتصرخ
حتى انتهى مخزونها من الصراخ
وحتى انتهى مخزونها من الحياة
*******
لقد وجدوا إيناس أخيراً
لقد وجدوا إيناس أخيراً في المقبرة
لقد وجدوها.. ووجدوا أن هناك مسماراً ضخماً قد دُقّ وثوبها إلى الأرض
وطبعًا لا أحد يعرف ما الذي يجعل فتاة تأتي في منتصف الليل إلى مقبرة بعيدة مهجورة لتدق ثوبها بمسمار إلى الأرض فلا تستطيع حراكاً!!.....
إن هوايات شباب هذه الأيام غريبة جداً.. ولا يمكن تفسيرها أبداً